مدار الساعة - كتب: أ. د. محمد محمود العناقرة -
في مثل هذا اليوم ولد زيد سمير طالب الرفاعي في عمان يوم 13 رمضان 1355ه الموافق 27 تشرين ثاني 1936م، أي بعد سنة من ميلاد الراحل الكبير الحسين بن طلال طيب الله ثراه – من عائلة ذات أصل عربي طيب وأصيل وإرث سياسي طويل.نستذكر في هذا اليوم دولة زيد الرِّفاعيّ ونحن نطالع فيه حكمته البالغة، وثقافته الواسعة، ورؤيته الثاقبة، وفكره المستنير، ونتصفّح جهوده السابغات وإنجازاته السامقات، ومسيرته المظفَّرة، وتاريخه المشرِّف في خدمة الدَّولة الأردنيَّة في جميع المناصب التي تقلَّدها.فهذا يوم من أيَّام الأردن الخالدات، نتنسَّم فيه عبير الوطن في أرقِّ سبحاته، وأرقى تجلِّياته، ونزدان فيه بثوب العزِّ والفخار ونحن نستذكر أرقى الرجال؛ فهو علمٌ من أعلام الوطن الكبار، ورجاله الأخيار، ممَّن شدّوا مئزر الإخلاص لخدمته، ونذروا أنفسهم لتقدمه ونهضته، ووصلوا الليل بالنهار حرصًا على مقدَّراته ومكتسباته ومصالحه العليا.لقد كان لزيد الرِّفاعيّ مواقف مشهودة، نستحضرها دائمًا حين نبحث في تاريخ الأردن ورجاله الصادقين الذين يحترمون أنفسهم، ويحرصون على وطنهم دون انتظار غنيمة أو مصلحة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأخلصوا للوطن والملك فكانوا منهل بذل وعطاء، وأنموذج ولاء وانتماء لعمداء آل البيت الأشراف من آل هاشم.عُرف عن دولة المرحوم زيد الرِّفاعيّ ولاؤه المطلق للعرش الهاشمي؛ فالهاشميون هم أعمدة الفخر ومنارة الشموخ والولاء، وقد تشرَّف دولته بالعمل مع ملكين هاشميين، رأى فيهما قدرة فائقة تشحذ الهمم، وتذكي العزيمة للبذل والبناء، وعاين فيهما سمات الصدق والأمانة والإخلاص والتضحية والقدرة على استشراف المستقبل.كان دولة زيد الرفاعي مرجعية سياسية هامَّة، وعلى درجة عالية من الوعي والدراية والقدرة على وضع الأمور في نصابها، سواءً أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، وذلك ليس عنه ببعيد؛ فإنَّ طبيعة النشأة التي نشأها، ونوعية التعليم الذي حصّله، بل وإنَّ تقلَّده العديد من المناصب الرفيعة في الدولة الأردنية، كلُّ ذلك جعله قادرًا على معرفة المكان الذي نقف فيه، والوجهة التي نمضي إليها، فهو بفكره السياسي شكل رقمًا صعبًا في القرار السياسي للدولة الأردنية، بغضِّ النَّظر عن المواقع السياسية المهمة التي تدرَّج فيها.شكَّل دولة أبو سمير ركيزة أساسية من ركائز صنع القرار السياسي في الأردن، فهو رجلٌ لا يوارب، ولا يعدد ولاءات، والى العرش الهاشمي مطلقًا، ووثق بالأردنيين، فقدَّروه وأحسنوا له. وخلال مسيرة عمله شكل علاقات إقليمية ودولية واسعة ممتدة، أدرج اسمه بها ضمن أبرز رجالات الدَّولة الأردنيَّة الحديثة، فلم تتغير مواقفه بالرغم من تغير مناصبه التي شغلها، فكانت المصلحة الوطنية هاجسه في كلِّ حالٍ، وذلك حدا بالقيادة أن تجدد ثقتها به غيرَ مرَّة.زيد الرِّفاعي رجلٌ قائدٌ يصعب أن تؤرخ سيرته ومسيرة حياته، تنسَّم المجد من طرفين: خصال قريبة، وأفعال سياسيَّة؛ فالقيادة والزعامة إذا اجتمعتا في رجل، فإنما تصنعان منه رجلًا كبيرًا، فيه من شمولية المناقب والصفات ما يتَّسع لها كلُّ مقال وحديث.
يحظى دولة المرحوم زيد الرِّفاعيّ بمكانة كبيرة في نفوس أبناء الشعب الأردني الأبي؛ نظرًا لحرصه على مصلحة أبناء وطنه خلال تنقله في المواقع السياسية العديدة، فالرِّجال العظام قدرهم أنَّهم ولدوا ونشأوا في بيوت العز والمجد، وعاصروا في طفولتهم وصباهم أحداثًا وظروفًا تزيدهم خبرةً ووعيًا؛ فكان زيد الرِّفاعيّ ابن سياسيٍّ مخضرم، هو دولة المرحوم سمير باشا الرِّفاعيّ الذي تشرب السياسة منذ نعومة أظفاره، فكان بيتهم موئلًا للسياسيين الأردنيين القدامى الذين عاصروا نشأة الدولة الأردنية. ولأنَّ زيد الرفاعي نشأ في بيت سياسيِّ أصيل؛ فقد اكتسب كثيرًا من الخبرات والمعارف التي التصقت بشخصيته، فكانت قبس أملٍ يضيء الطريق لمستقبل واعد يصنعه وينهض به؛ ما يحدونا بحقِّ الأردن على أبنائه أن نذكر رجالاته الأشاوس الذين حرصوا على وصل ليلهم بنهارهم لإعلاء صروح المجد والفخار في الأردن؛ بلد العزِّ والولاء، والخير والعطاء.لا تقاس أعمال العظماء من الرِّجال بالمناصب التي تدرَّجوا فيها، وإنما بالإنجازات التي قدَّموها. وعند الحديث عن إنجازات دولة المرحوم زيد الرِّفاعيّ، يحار المرء من أين يبدأ وإلى أين ينتهي؛ نظرًا لأهميتها ولكثرتها، فهو بحق الرَّجل الموقف، ورجل دولة من طراز رفيع، زامن وجوده في مراكز صنع القرار فترة هامَّة من تاريخ الدَّولة الأردنيَّة، وهي الفترة التي انتقلت فيها السلطات الدستورية بين ملكين هاشميين بعد وفاة الملك المعظَّم المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، فكانت مشاعر دولة زيد الرِّفاعيّ وأحاسيسه منقسمة بين حزن شديد تتفطَّر له القلوب على رحيله، وارتياح واطمئنان للقيادة الجديدة التي سارت على خطى الآباء والأجداد، ورسمت المستقبل الواعد للدَّولة، وتنوَّرت الخير والصلاح للأردنيين جميعًا، بقيادة الملك المعزز عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه.آمن زيد الرِّفاعيّ بالأردن، وبالملك الهاشمي المعزز جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، وقدراته الكبرى على استشراف المستقبل، فيرى دولته على الدوام أن الأردن سيبقى شامخًا شموخ الجبال أمام كل العقبات والعثرات، بفضل القيادة الهاشمية الحكيمة التي نادت بالإصلاح منذ توليها سلطاتها الدستورية ووفاء الشعب الأردني والأجهزة الأمنية التي تصل الليل بالنهار من أجل توفير المظلة الأمنية المناسبة في ربوع الوطن الذي يشهد له القاصي والداني بنعمتي الأمن والأمان.إن الحديث عن دولة زيد الرفاعي هو السهل الممتنع، فمن السهل الحديث عن شخصيَّة نقيَّة هادئة، وعن سلوك حسن وأخلاق رفيعة. لكنَّ الممتنع يكمن في الحديث عن نفسه أو الترويج لها؛ فهو من الرجالات الذين بنوا الأردن، وشيَّدوه، وعَمَروه، وحرسوه بدمائهم وترفعهم وسموهم وتساميهم.بتاريخ 6 أيار1965م، احتفلت عائلتا الرفاعي والتلهوني في حفل عائلي بهيج بخطوبة زيد الرفاعي، نجل دولة السيد سمير طالب الرفاعي، على الآنسة منى التلهوني، كريمة دولة السيد بهجت التلهوني، وأنجب منها ابنه سمير الذي شغل منصب رئيس الوزراء في حكومة عام 2011م خلال فترة حكم الملك عبد الله الثاني- وابنته علياء أيضًا.لقد أولى دولته رحمه الله اهتمامًا بالغًا لأسرته رغم أعباء العمل السياسي، كانت زوجته السيدة منى التلهوني شريكة حياته والداعمة الرئيسة له، إذ تمثل حضورها أحد أعمدة استقراره العاطفي والإنساني، وقد عبّر عن حب عميق لها، مقرون باحترام كبير لدورها في حياته. وشكّل ابنه، دولة سمير الرفاعي، امتدادًا طبيعيًّا لمسيرة والده، ليس فقط من حيث الانتماء السياسي، بل بوصفه حاملًا للقيم والمبادئ التي نشأ عليها في كنف والده، وقد أولاه زيد الرفاعي دعمًا وتوجيهًا مبنيًّا على حكمة الأب وثقة القائد. أما ابنته الوحيدة، علياء، فقد كانت الأقرب إلى قلبه، إذ أحبها بمحبة خاصة اتسمت بالحنان والاعتزاز، وحرص على تمكينها إنسانيًّا واجتماعيًّا لتبقى محافظة على أصالتها وثقتها بنفسها. وفيما يخص أحفاده، زيد، حسين، منى، فؤاد، وعمر، فقد مثلوا له امتدادًا حيًّا لإرثه العائلي والإنساني. لم يرهم مجرد أحفاد، بل مشاريع أمل يحرص على غرس القيم في نفوسهم، متابعًا مسيرتهم بحب وحنان الجد العطوف. لقد جمع زيد الرفاعي في بيته كما في حياته العامة، بين الحزم واللين، والواجب والعاطفة، فكان قائدًا بالحب، وأبًا بالرعاية، وجدًّا بالفخر. وفي حقيقة الأمر، تُعد هذه الجوانب الإنسانية المتجذرة في شخصيته، من الركائز التي أسهمت في ترسيخ حضوره الفاعل والمحبوب في الحياة السياسية والاجتماعية الأردنية.لدولة السيد زيد الرِّفاعيّ مواقف مشهود له بها، نستحضرها دائمًا حين نبحث في تاريخ الأردن عن الأوفياء من الرّجال الصادقين، ديدنهم الحرص على قيادتهم ووطنهم دون انتظار غنيمة أو مصلحة.إنَّ الإيمان برسالة الوطن مسألة تأخذ طابع القداسة، حينما يحمل الوطن ثقافة أعظم أمة وجدت على هذه البسيطة، لا نقول هذا أنانيَّة وعصبية، بل إحقاقًا لحقٍّ وإنصافًا لأمةٍ. وصورة الأردن في قلب العالم العربي تؤشر على مكانته الثقافية، فالذات الحضارية المكتنزة في هذا البلد لم تأت من جغرافية متوسطة منحها القدر لها، بل جاء من أولئك المؤمنين من أبنائها الذين كانوا دائمًا خلف نجاحها وتقدمها للأمام.فالحديث عن دولة المرحوم زيد الرفاعي يحار المرء من أين يبدأ، عاش حياته لا يعرف إلا طريق الحق والصواب، طريق الصدق والإخلاص، فكان ذا حس شخصي وشعور بالمسؤولية وتحمل للواجب ومقدرة على تحمل المسؤوليات الصعبة، وكان على دراية بأصول الحكم وروح السياسة، نال ثقة الهاشميين بكل جدارة، عُرف عنه الحزم والعزم وقدرته على تسيير دفة الأمور. وعندما فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها لم يترك زيد الرفاعي لنا إلا سجلًّا ناصعًا يعج بالإيمان ونقاء الضمير.لقد حرص دولة أبي سمير طوال مشواره في العمل السياسي على أن يؤدي واجبه دون تهاون وتفريط وفي ذلك يقول: "إن خدمة مليكي وبلدي وأمتي كانت هي الغاية عندي، وهي الهدف، ولا أحسب أن في الكون كله هدفًا وغاية يفوقان ذلك قيمة وقدرًا، وستظل راحتي الدائمة وربما فرحي الأبدي ينبعان من إيماني المطلق بأن الله خلقني في بلد آمن مستقر، وجعلني من أبناء شعب طيب أصيل نبيل، وجعل على رؤوسنا جميعًا قيادة تاريخية ممثلة بالعائلة الهاشمية.إن الحديث عن زيد الرفاعي هو حديث عن أبرز رجالات الرعيل الأول الذين أسهموا في بناء الدولة الأردنية وتطويرها؛ فالحديث عنهم يعطي صورة مشرقة عن كوكبة من الرجال الأوفياء الذين رافقوا الملك الباني الحسين بن طلال طيَّب الله ثراه، ومن تابعوا بعده مع جلالة الملك المعزز عبد الله الثاني ابن الحسين، فهم بحق رجال عظام كان عطاؤهم موصولًا، رجال اتخذوا العمل العام هدفًا ساميًا ليخدموا وطنهم وأمتهم.وقد لقبت حقبته إبان رئاسته للحكومة غير مرَّة بالحقبة "الرفاعية"، نسبة لأبي سمير رجل الدولة من الطراز الأول. ونظرًا لتفوقه في العمل السياسي، ولأنه رجل الدولة الواثق من نفسه، كما أنه أحد الرموز الهامة في تاريخ الدولة الأردنية؛ فقد نهض التاريخ شامخًا أمامه لأنه كان الصادق دائمًا في قوله وفعله، فهو الدبلوماسيٌّ اللبقٌ والسياسيٌّ العريقٌ.يُشكلُ دولة زيد الرفاعي مثالًا بارزًا في الحياةِ السياسية الأردنية الحديثة؛ نظرًا لتنوعِ المناصبِ العليا التي شغلها، والتي أهلته ليكون أحد أعمدة الدولة الأردنية في القرن العشرين. فقد تنقل بين مواقعِ المسؤوليةِ بروحِ رجلِ الدولةِ، فتولى رئاسة التشريفات الملكية، ثم شغلَ منصبَ الأمين العام للديوان الملكي الهاشمي، وعين سكرتيرًا خاصًّا لجلالة الملك الحسين بن طلال-رحمه الله- ، قبل أن يتسلم رئاسة الديوان الملكي، ويُعين لاحقًا سفيرًا لدى المملكة المتحدة. ولم تقتصر أدوارهُ على الجوانبِ الدبلوماسية والإدارية، بل شغل أيضًا مناصبَ تنفيذيةً عليا، أهمها توليه رئاسة الوزراء، بالإضافة إلى وزارتي الخارجية والدفاع في أربع حكومات بين عامي 1973م و 1985م، في فتراتٍ تميزت بكثافةِ الأحداث.اتسمت الفترات التي تولى فيها دولة المرحوم زيد الرفاعي مقاليد السلطة التنفيذية؛ بأنها فتراتُ بناءِ ونهوض في شتى المجالاتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والتعليميةِ والثقافيةِ، ونستطيع الإشارة إلى دورهِ المؤثر في قرار مؤتمر الرباط سنة 1974م والاعترافِ بمنظمةِ التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًّا وحيدًا للشعب الفلسطيني، كما نشيرُ أيضًا إلى حضورهِ في القرار الأردني في حرب 1973 وما رافقها وتبعها من تطورات مثل مؤتمر جينيف بوصفهِ من أهم المؤتمرات المصيرية حول النزاعِ في الشرق الأوسط.وفيما يخص إنجازاتهِ في عمليةِ بناءِ الدولةِ وتحديث المؤسسات، فلحكوماتِ دولتهِ إنجازاتٌ استراتيجية من قوانين هامةٍ وحساسةٍ مثل قانون العفو العام عن الموقوفين والمحكومين في قضايا الاعتداء على أمن الدولة، وقانون تأسيس الاتحاد الوطني، وقانون خدمة العلم، وفي حكومتهِ الرابعة في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي "وهي الحكومةُ الأطول في عهد المغفور له الملك الباني الحسين بن طلال" شهدت البلادُ أحداثًا تاريخية كان دولته خلالها في صدر المشهد السياسي والدبلوماسي والإداري للمملكة، نذكرُ منها استضافة عمّان لقمة الوفاق والاتفاق، وإعلان مجلس التعاون العربي الذي ضم الأردن ومصر واليمن والعراق، وصدورَ قانونٍ جديدٍ للانتخاب، كان من آثارهِ الإيجابية بروز تنوعٍ كبيرٍ في الطيف الحزبي والسياسي في السلطتين التشريعية والتنفيذية.يُمكن القول إن دولة المرحوم زيد الرفاعي لم يكن مجرد شخصية سياسية مرموقة في تاريخ الأردن، بل كان عنصرًا فاعلًا في تشكيلِ الدولةِ الأردنية الحديثة، وعاكسًا لجوانبَ متعددةٍ من التحدياتِ والفرص التي مرت بها المملكة، بوصفهِ مثالًا بارزًا في تاريخ الأردن السياسي، كما تتجاوز إنجازاته الألقاب والمناصب لتكون جزءًا حيويًّا من سرديةِ الدولةِ الأردنيةِ الحديثة.وأخيرًا، يُسجَّل لدولة زيد الرفاعي بأنه رجل الدولة والمواقف الجريئة، لم يجامل على حساب الوطن بل ظل الأردن هاجسه الدائم الدائب المتجدد، يعشق العمل ويقدس تراب الوطن. وعُرف عنه إخلاصه المطلق للعرش الهاشمي، وحبه الكبير لتراب هذا الوطن. رحم الله دولة زيد سمير الرفاعي، وأسكنه فسيح جناته، وحفظ الله الأردن قيادةً وشعبًا.










